فرض تأليفي عدد 1 في الإنشاء السنة الثامنة مرفق بالإصلاح
فرض تأليفي عدد 1 في الإنشاء السنة الثامنة مرفق بالإصلاح
فِي صَبَاح يَوْمٍ رَبِيعِيّ مُشْرِقٍ ، خَرَجْتُ مِنَ المَنْزِلِ وَقَلْبِي يَفِيضُ بِالحَمَاسِ . كَاَنتْ الشّمْسُ تُرْسِلُ أشِعّتَهَا الأولَى كَخُيُوطٍ ذَهَبِيّةٍ تُلامِسُ أطْرَافَ الأشْجَارِ بِرِفْقٍ. السّمَاءُ صَافِيَةٌ، لَوْنُهَا أزْرَقٌ نَقِيَّ، تُزَيّنُهَا سُحُبٌ بَيْضَاءً خَفِيفَةٌ كَأنّهَا وِشَاحٌ شَفّافٌ مَرْسُومٌ بِعِنَايَةٍ. بَدا الأفُقُ وَكَأنّهُ يُنَادِيكَ لِلغَوْصِ فِي أعْمَاقِهِ وَاسْتِكْشَافِ أسْرَارِهِ.
عِنْدَمَا وَطِئَتُ قَدَمَايَ أرْضَ الغَابَةِ، كَانَ المَشْهَدُ أشْبَهُ بِلَوْحَةٍ تَشْكِيلِيّةٍ . الأشْجَارُ شَامِخَةٌ بِأغْصَانِهَا المُتَشَابِكَةِ التِي تَتَمَايَلُ مَعَ نَسَمَاتِ الصَّبَاحِ، وَأوْرَاقُهَا الخَضْرَاءُ تَلْمَعُ تَحْتَ أشِعّةِ الشّمْسِ كَأنّهَا مُرَصّعَةٌ بِأحْجَارِ الزّمُرّد. عَلَى الأرْضِ، اِنْتَشَرَتْ زُهُورٌ بَرِيّةٌ بِألْوَانٍ زَاهِيَةٍ؛ الأحْمَرِ القَانِي، الأصْفَرِ السّاطِعِ، وَالأرْجُوَانِي المُبْهِج، وَكُلّ زَهْرَةٍ تَنْشُرُ عِطْرَهَا الخَاصّ الذِي يَنْسَابُ مَعَ الهَوَاءِ فَيَنْسُجُ سِيمْفُونِيّةً عِطْرِيّةً تَأسُرُ الأنْفَاسَ.
فِي كُلّ زاوِيَةٍ تَجِدُ مَشْهَدًا جَدِيدًا يَدْعُوكَ لِلتّوَقّفِ وَالتّأمّلِ. الجَدَاول الصّغِيرَة تَنْسَابُ بَيْن الصّخُور،ِ مِيَاهُهَا صَافِيَةٌ لِدَرَجَةٍ تَعْكِسُ السّمَاءَ كَمَرْآة طَبِيعِيّةٍ. أصْوَات خَرِيرُ المِيَاهِ تَنْدَمِجُ مَعَ تَغْرِيد العَصَافِير، التِي بَدَتْ وَكَأنّهَا تُقَدّمُ حَفْلَةً مُوسِيقِيّةً تُرَحّبُ بِزائِري الغَابَةَ .
شَمْسُ الصّبَاحِ لَم تَكُنْ حَارّةً، بَلْ دَافِئَةً وَحَنُونَةً، وَكَأنّهَا تَرْبُتُ عَلَى كَتِفَيْكَ وَتُشَجّعُكَ عَلَى المُضِيّ قُدُماً. رَائِحَةُ الصّنَوْبَرِ تَعْبَقُ فِي الأجْوَاءِ، تَخْتَلِطُ بِرَائِحَةِ الأرْضِ الرّطْبَةِ التِي اِسْتَقْبَلَتْ نَدَى اللّيْلِ. شَعُرْتُ بِأنْفَاسِي تَنْتَظِمُ مَعَ نَسِيمِ الغَابَةِ، وَكَأنّ الطبِِيعَةَ تَدْعُونِي لأصْبِحَ جُزْءاً مِنْهَا، أنْ أسْتَمِعَ إلَى حَدِيثِهَا الصّامِتِ وَأشْعُرَ بِنَبْضِهَا الخَفِيّ.
عِنْدَمَا رَفَعْتُ بَصَرِي نَحْوَ السّمَاءِ، رَأيْتُ نُورَ الشّمْسِ يَتَخَلّلُ الأغْصَانَ فِي خُيُوطٍ طَُوِيلَةٍ، تَرْسُمُ ظِلالاً مُتَحَرّكَةً عَلَى الأرْضِ كَأنّهَا لَوْحَاتٌ مُتَغَيّرَةٌ لا تَتَكَرّرُ. نَظَرْتُ حَوْلِي، فَإذَا بِالأرَانِبِ الصّغِيرَةِ تَتَنَقّلُ بِخِفّةٍ بَيْنَ الأشْجَارِ، تَبْحَثُ عَنْ غِذَائِهَا، ثُمّ لَمَحْتُ أرْنَبًا بَرِيّا يُطِلّ بِحَذَرٍ مِنْ وَرَاءِ شُجَيْرَةٍ، وَكَأنّهُ يُرَاقِبُنِي فِي فُضُولٍ.
لَكِن مَا لَبِثَ أنْ تَبَدّلُ المَشْهَدُ. بَدَأتْ الغُيُومُ الدّاكِنَةُ تَتَسَلّلُ بِبُطْء، تَحْجُبُ ضَوْءَ الشّمْسِ، وَكَأنّ السّمَاءَ تُخَبّئ مُفَاجَأةً قَادِمَةً. اِشْتَدّتْ الرّيَاحُ فَجْأةً، تَعْصِفُ بِالأشْجَارِ، فَتَتَمَايَلُ أغْصَانُهَا بِشِدّةٍ كَأنّهَا تَئِنّ تَحْتَ وَطْأةِ الغَضَبِ. فِي لَحَظَاتٍ، اِنْهَمَرَتْ الأمْطَارُ بِغَزَارَةٍ، كَأنّ السّمَاءَ تُفْرِغُ أحْزَانَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً.
كَانَ صَوْتُ المَطَرِ يَخْتَلِطُ بِصَوْتِ الرّيَاحِ القَوِيّةِ، وَصَدَى الرّعْد يُمَزّقُ السّمَاءَ بِصَخَبٍ رَهِيبٍ. تَحَوّلَتْ الأرْضُ التِي كَانَتْ مُغَطّاةً بِالعُشْبِ النّدِيّ إلَى بِرَكٍ طِينِيّةٍ، وَالمَمَرّاتُ التِي سَلَكْتُهَا أصْبَحَتْ سُيُولاً صَغِيرَةً تَجْرِي بِلا تَوَقّفٍ. وَجَدْتُ شَجَرَةً ضَخْمَةً فَلُذْتُ تَحْتَ أغْصَانِهَا الكَثِيفَة لأحْمِي جَسَدِي المُبَلّل .
شَعُرْتُ بِرَهْبَةٍِ عَظِيمَةٍ. فَالطّبِيعَةُ فِي قِمّةِ غَضبهَا، لَكِنّهَا فِي ذَاتِ الوَقْتِ تَبُثّ شُعُوراً مُهِيباً. المَطَرُ يَغْسِلُ كُلّ شَيْء؛ الأرْضَ، الأوْرَاقَ، وَحَتّى رُوحِي، وَكَأنّنِي أشَارِكُ الطّبِيعَةَ هَذَا الغَضَبَ المُفَاجِئَ العَنِيفَ. رَغْمَ بُرُودَةِ الجَوّ ورَذَاذِ المَطَرِ الذِي نَفَذَ إلَى عِظامِي، فَقَدْ شَعُرْتُ بِدِفْءٍ فِي دَاخِلِي يَنْبَعُ مِنَ الإحْسَاسِ بِعَظَمَةِ هَذَا الكَوْنَ، وَقُدْرَةَ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، هَدَأتْ العَاصِفَةُ تَدْرِيجِيّاً. بَدَأتْ الغُيُومُ تَتَفَرّقُ بِبُطْءٍ، وَأرْسَلَتْ الشّمْسُ أشِعّتَهَا الخَافِتَةَ لتَحْتَضِنَ الغَابَةَ مَرّةً أخْرَى. كَانَتْ الطّبِيعَةُ بَعْدَ المَطَرِ مُخْتَلِفَةً؛ أوْرَاقُ الأشْجَارِ تَلْمَعُ كَأنّهَا مَغْسُولَةً بِعِنَايةٍ، وَالجَدَاوِلُ الصّغِيرَةُ أصْبَحَتْ أكْثَرَ امْتِلاءً، تَنْسَابُ المِياهُ فِيهَا بِحَيَوِيّةٍ مُتَجَدّدِةٍ. حَتّى الطّيُورَ التي اِخْتَبَأتْ أثْنَاءَ العَاصِفَةِ عَادَتْ إلى التّغْرِيدِ، وَكَأنّهَا تُرَحّبُ بِالسّلامِ العَائِدِ.
حِينَ عُدْتُ أدْرَاجِي نَحْو المَنْزِلِ مَعَ اِقْتِرَابِ الغُرُوبِ، كُنْتُ مُرْهَقاً، لَكِن بِدَاخِلِي شُعُورٌ بِالامْتِنَانِ. عِشْتُ يَوْمًا يَفِيضُ بِالعِبَرِ وَالمَشَاعِرِ. أدْرَكْتُ أنّ لِلطّبِيعَةِ وَجْهَيْنِ؛ وَجْهٌ هَادِئٌ نَاعِمٌ يَدْعُونَا لِلاسْتِرْخَاءِ، وَوَجْهٌ غَاضِبٌ قَوِيّ يُذَكّرُنَا بِقُدْرَةِ الله العَظِيمَةِ . كِلا الوَجْهَيْنِ جَمِيلٌ بِطَرِيقَتِهِ الخَاصّةَ، وَكِلاهُمَا يَتْرُكُ أثَرَهُ العَمِيقَ فِي النّفْسِ.